إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره…
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين: شعورٌ كمْ خفقت به القلوب، وشوقٌ كم كلَفَت به الأفئدةُ، وحنينٌ يزلزل مكامنَ الوجدان، حبٌّ أطلقَ قرائحَ الشعراءِ، وهوى سُكبت له محابر الأدباءِ، وحنينٌ أمضّ شغافَ القلوب، وإلفٌ يأوي إليه كرام النفوس، حبٌّ لم تخلُ منه مشاعر الأنبياء، ووُدٌ وجدَ في قلوب الصحابة والأصفياء، بل هو شعور تغلغل في دواخل الحيتان تحت الماء، ورفرفت لأجله أجنحة الطير في السماء، إنه -أيها المسلمون- حب الأوطان.
قال أهل الأدب: "إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه".
والمحبة للأوطان والانتماء للأمة والبلدان أمرٌ غريزيٌ، وطبيعةٌ طبعَ اللهُ النفوس عليها، وحينَ يولدُ الإنسانُ في أرضٍ وينشأُ فيها فيشربُ ماءَها، ويتنفسُ هواءَها، ويحيا بين أهلها؛ فإن فطرته تربطه بها، فيحبُّها ويواليها، ويكفي لجَرْح مشاعر الإنسان أن تشير بأنه لا وطن له.
وقد اقترن حب الأرض بحب النفس في القرآن الكريم؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ…)[النساء: 66]، بل ارتبط في موضع آخر بالدين؛ قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].
ولما كان الخروج من الوطن قاسيًا على النفس، فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم هجرةً في سبيل الله، وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح: عن عبد الله بن عدي قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفًا على راحلته فقال: "إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت".
قال العيني -رحمه الله-: "ابتلى الله نبيه بفراق الوطن".
يها المسلمون: البشر يألفون أرضهم على ما بها حتى ولو كانت قفرًا موحشة، وحب الأوطان غريزةٌ مستوطنةٌ في النفوس تجعل الإنسان يستريح للبقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص، والوطنية بهذا المفهوم الطبيعي أمرٌ غير مستغرب، وهذه السعادة به، وتلك الكآبة لفراقه، وهذا الولاء له، كلُّها مشاعرُ إنسانيةٌ لا غبار عليها ولا اعتراض، ولا يجوز أن تكون مفهومًا مشوهًّا يُعارَض به الولاءُ للدين؛ فالإسلام لا يغير انتماءَ الناسِ إلى أرضِهم ولا شعوبِهم ولا قبائلهم، فقد بقي بلالٌ حبشيًّا، وصهيبٌ روميًّا، وسلمانُ فارسيًّا، ولم يتضارب ذلك مع انتمائهم للإسلام.
أقول ماتسمعون الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
مقدمة
عباد الله
ومن التناقضات في المواطنة وحب الوطن أن يحتفل بعض الشباب باليوم الوطني ويقوموا بأعمال الشغب، ويعتدوا على المحلات والسيارات والأسواق والعائلات.
وقد حدث هذا قبل عدة سنوات في الرياض والمدينة المنورة وتبوك والشرقية وغيرها كما نشرت ذلك كثير من وسائل الإعلام المحلية، وهنا نتساءل بكل أسف وحزن: هل حب الوطن في الفوضى وتكسير المحلات وسرقتها، والتفحيطِ والإخلال بالأمن في الطرقات؟! هل حب الوطن في الإزعاج والرقص وهز الوسط على الموسيقى المحرمة؟!
نقول لهؤلاء المتناقضين جميعًا: إن حبَّ الوطن بالقيام بمسؤولياته وحفظ أماناته وأدائها إلى أهلها، وليس بسرقة الوطن والمواطنين.
إن حب الوطن يكون بالدفاع عنه وعن دينه ومقدساته ومواطنيه وليس بأذيتهم.
إن حب الوطن يكون بحفظ نظامه، وإصلاح أهله وليس بإفسادهم.
إن حبَّ الوطن باحترام الكبير، والعطف على الصغير، واحترام الجار، واحترام النظام ونظافة الشارع وعدم مضايقة المسلمين.
إنَّ حبَّ الوطن بالحرص على كل ممتلكاته، والتعامل بأخلاق المسلم مع المسلم في كل مكان.
إنَّ حبَّ الوطن ليس يومًا في السنة فقط!! أو صورةً أو عَلَمًا، بل حب الوطن في كل يوم وفي كل حين.
نسأل الله أن يهدي شبابنا، ويسلك بهم سبيل الرشاد، وأن يجعلهم مواطنين صالحين، مصلحين في أسرهم ومجتمعهم، إنه جواد كريم.
الدعاء للمسلمين والمسلمات وولي الأمر والدعاء لهذه البلاد المباركة